في مكان بعيد، بعيد جدا جدا عن كلّ ما قد يتخيّله عقلي يوما ما، أشرقت في قلبي شمس الحياة من جديد.
بالتأكيد "عزيزي" القارئ... أنت قرأت مني هذه الجملة مئات المرات خلال الأشهر الفائتة دون جدوى...
لكن، هذه المرة... بها شيء مختلف تماما... آي بروميس!
لم أكن إلى هذه اللحظة أثق بنفسي بعد، لم أشعر أنني أستطيع أن أتمالك زمام نفسي، أو حياتي. لمدة سنتين، تركت بسرور كل شيء يتسرّب بين أصابعي، كلّ حياتي تقريبا. لم يكن أي شيء يهمني.
لا صحتي، شكلي، عملي، هواياتي، صداقاتي... وكلّ متطلبات الحياة الإنسانية...
لم أعد ألهث خلف بناء اسمي، وسُمعتي المهنية تراجعت لأقصى مدى وصلتُ له في حياتي. لم أبع شيئا، لم أصنع شيئا ذو قيمة، لم تعد تغريني رسائل الأشخاص الغرباء التي تحاول جذب انتباهي لمشروع جديد... ولم تعد طلبات الناس مني تُجاب.
حاولت، لكن كانت محاولات سخيفة، تحيطها الريبة وتدفعها اللامسؤولية، لم أكن أعنِ تلك المحاولات حقا… كانت مجرّد تحصيل حاصل ليُعبّر أنني على قيد الحياة لكن على الأجهزة المساعدة إن صحّ التعبير.
لكن ما حصل في هذا المكان البعيد والهادئ، كان شيئا مختلفا تماما.
منذ فترة من الزمن، وأنا أقلّب خيار البقاء علي قيد الحياة في رأسي، أوازن كلّ ما أرى، أكتب سرّا في تدويني اليومي عن الأسباب التي تدعوني للبقاء هنا بينكم، أو الانتهاء من هذه الحياة.
كلّ يوم، على مدى سنتين، قيّمت هذه الحياة، بحثت في كلّ زواياها المكشوفة لي عن أي خيط واه، يجعلني أندهش، لأقرر أن أبقى هنا… أتذكّر أنني كنتُ أغذّي روحي على الدهشة، الفضول.
لن أكذب، في الكثير من المرّات، رجحت كفّة نهاية الحياة… في كثير من المرات، قررت أن لا شيء هنا يستحق أن أبقى ولو لساعة إضافية…
لذلك، كنت أعيش تحصيل حاصل. أستيقظ صباحا وأنا مُثقلة بهمّ يوم لم يبدأ. آحاول خلال هذا اليوم التعامل مع الآخرين بشكل يترك مسافة من نوع ما بيني وبينهم، دون أن يشعروا بذلك… كنت أشعر بالرحيل القريب، لا أرغب حقا بالبقاء… ولا أعرف كيفَ أفسّر لكم هذه الرغبة… لكنني كنت أستعد لها سرا...
لا أتعلّق، ولا أسمح لأحد أن يتعلّق بي... أحاول أن أضع حدودا غريبة دائما...
حاولت التخطيط في العديد من المرات لعودة عملي بشكل جيد، أو حتى لبيت جديد أشعر به ببعض الاستقرار، وبالضرورة، لوضعي المادي الذي بدأ بالتردّي منذ اللحظة التي بدأت بها في استهلاك مدّخراتي على شراء أدوية لا أؤمن حقا بأهميتها في بقائي على قيد الحياة.
لكن ما حدث... يالدهشتي!
في هذا المكان البعيد، الهادئ… بقعة من الأرض… لم أكن حتى أدرك وجودها، أهلها يتحدّثون لغة لا أفهم منها إلا بعض الهمهمات… تسلّل حديث من قلب صديقي ل قلبي… فجأة… أدركت أنني اخترت الحياة… لكنني اخترت أن أعيشها ميتة.
على قارعة الحياة كما يقولون… عايشة بس مو عايشة عنجد…
أعيش بمبدأ امش عدل يحتار عدوّك فيك… أو ربما سمعته بطريقتك… امشي جنب الحيطة.
كلّ يوم، أحاول استيعاب ما يحدث في عقلي، أكافح كل تلك الأفكار المتهورة التي تدعوني بلحظة إلى رمي نفسي أمام أول شاحنة أراها، أو من أعلى مُرتفع أصل له. في بعض المرات، أكافح فكرة أن أصرخ بوجه شخص ما، استفزني بتصرفه الغبي. و في النوادر أكافح رغبتي بارتكاب جريمة.
كلّ يوم، النهوض من السرير هو أصعب مهمة… مكبّلة بأثقال لا حِمل لي بها.
تذكّرني صديقتي دانة كلّ يوم، بأن آكل… لأنني لفترة، نسيت شعور الاستجابة للجوع…
هكذا مرّت السنتين… بنفس المنوال كلّ يوم… إلا بعض الأيام التي تسللت من قبضة الاكتئاب اللعين.
كنت أستشعر طعم مرارة الأيام بحلقي. أشعر بغضب، حانقة على كل هذه البشرية لماوصلنا له من غباء.
أكتب بعض الأيام بلا توقف لساعات… لأفرّغ تدفّق كل هذه المشاعر… في مرات أخرى، أنسى نفسي تحت الدش ولا أشعر بالوقت.
الكثير من ليال الأرق متأملة السقف، منتظرة شروق الشمس، لأمثّل على نفسي أنني استيقظت بعد ليلة هانئة النوم نتيجتها سباق محتدم بين شحوب وجهي، غثياني، والهالات السوداء بالطبع!
جثة عايشة… تعيش فقط لأنها قررت أن تأخذ مضاد الاكتئاب الذي يجعلها أكثر جبنا من انهاء حياتها.
لكنّي الآن… أشعر بالرغبة في الانقلاب على حياتي… هذه ليست حياة…
لو كنتُ أشاهد حياتي فلما لكنت صرخت من مقعدي لأقول للبطلة… قومي… يكفي عزاء على حياتك السابقة… أنت هنا الآن… سنتين كانت كافية للنواح و البكاء… سنتين من النق المستمر… من الدموع على كل ما تلمحه عينك… سنتين من الضعف، اللامسؤولية، الانكسار… سنتين مرت…
تملكين كلّ شيء تريديه…
فقط العزم، والإرادة والاستمرارية… هذا كل ما يلزمنا الآن…
أستجدي عقلي: القليل من الضغط على النفس لن يضر…
لديك عقلك تتذكري؟ عقلك جيد… مازال يعمل بشكل لا بأس به.
تبدأ الأسئلة تقفز إلى رأسي… صارخة:
طيب الصداع المستمر؟ شو حنعمل فيه؟
مدري، حنتصرف… كيف؟ ما أعرف… حتلاقي حل. أكيد فيه حل.
فيجيب عقلي بتذاك:
تستهبلي؟ كيف حتبدئي تشتغلي؟ إنت ما تعرفي أي شي، ما تعرفي أي أحد. كل معارفك خذلوك في الفترة اللي فاتت… تقريبا لم يفتح لك أي باب طرقتيه، وهذا بسبب غرورك أو غبائك… أو غالبا الاثنين مجتمعين.
فماذا سنفعل؟ كيف سنبدأ؟ من أين؟
لا أعرف… حنتصرّف… كالعادة… كيف سأضع خطّة؟ كيف سألتزم بتنفيذها؟ يا الله كم أنا تائهة، ضائعة.
أكتب هذه التدوينة في الطائرة، عائدة إلى مخبئي السري في الرياض، حيثُ اخترت أن أستقر هذه الأيام من حياتي…
تقدر يا صديقي تعتبرها، اعتراف مني.. أو اكتشاف.. ما تفرق.
اكتشاف إني بما إني قررت عيش، ف لازم عيش بطريقة على الأقل تجعلني عندما أنظر لصور هذه المرحلة أقول… أوه واو كل هذا مررت به من جديد؟
سأنجح؟ لا أعرف
مليئة بالشكوك… ثقتي بنفسي تكاد تكون منعدمة، لا أعرف حقا من أين يجب عليي أن أبدأ… ولا أرى أصلا أي نفق ولا أي نور… لكنني تعلّمت درسا من حياتي السابقة…
السعي يفتح أبوابا لم أكن أعرف بوجودها…
فالخطة الآن…
أن أسعى… بكل طاقتي.
أن لا أستمع للصوت في رأسي.
أن أعمل بكل قوتي على محاربة كل تلك الشكوك.
أن استكشف الطرق الأخرى التي لم أسلكها سابقا.
أن أعيش حياة، أكون أريدها فعلا.
كوب الهوت تشوكلت مع الحديث مع صديقي السرّي، فتح في قلبي شريانا للحياة، بعد أن ظننت أن قلبي توقف نبضه.
مُبهر كيف بعض لحظات الحياة… تَلِد حياة أخرى كاملة…
دعينا نرى يا نفسي، ماذا سيحدث خلال هذه ال ٦ أشهر القادمة… هذا تحدّ بيني وبين عقلي.
Commentaires